الفول والسيجار

الفول والسيجار

كتب سامي مبيّض كنت في مطعم بدمشق صباح يوم الجمعة ورأيت شخص يُدخن السيجار الفاخر وهو يأكل الفتة والفول والحمّص. هو حر بتصرفاته لا شك، ولكني أكاد أن أجزم أنه دخيل على عالم السيجار، الذي يُعرف بطقوسه واصوله وأمكنته المخصصة. لو شاهده تشرشل لمات قهراً وعذاباً من هذا المشهد الأليم. ظاهرة السيجار دخيلة نسبياً على

كتب سامي مبيّض

كنت في مطعم بدمشق صباح يوم الجمعة ورأيت شخص يُدخن السيجار الفاخر وهو يأكل الفتة والفول والحمّص. هو حر بتصرفاته لا شك، ولكني أكاد أن أجزم أنه دخيل على عالم السيجار، الذي يُعرف بطقوسه واصوله وأمكنته المخصصة. لو شاهده تشرشل لمات قهراً وعذاباً من هذا المشهد الأليم.

ظاهرة السيجار دخيلة نسبياً على مجتمعنا السوري، وهي مرتبطة بظهور طبقة جديدة من الأغنياء، صنعتهم ظروف الحرب. يظن هؤلاء أن السيجار يرفع من مكانتهم الإجتماعية، تحديداً لو ترافق مع إضافة كلمة “بك” إلى أسمائهم. وفي مجتمعنا المطحون بالفقر اليوم، ورقة الألف قد تصنع المعجزات، ويصبح الحرامي “فلان بك” ويتحول اللص إلى “فلان باشا.” يعتقدون أنهم يستطيعون شراء الأكابرية، مثلما يشترون القصور والسيارات والمزارع، ولكنهم يعلمون جيداً أن هناك أشياء معينة في هذه الحياة لا يمكن شرائها أبداً، ومنها “التاريخ.”

فتاريخ الشخص لا يُمحى ويبقى محفوراً في ذاكرة الناس، حتى لو تجاهله البعض مُجبراً. ومن خصائص مدينة دمشق أنها تمتلك ذاكرة حديدية بالرغم من تقدُمها بالسن، فهي لا تنسى أبداً. هذه المدينة العجوز قد شهدت كل شيئ على وجه الخليقة، من سلاطين وإمبراطوريات ورجال…وأشباه رجال، وقد شبعت منهم ولا تعنيها مظاهرهم. مهما كبرت أرصدتهم ومهما كبر حجم سيكارهم، سوف تستقبلهم دمشق يوماً، إما في الدحداح أو في باب الصغير، حيث لن ينفعهم لا مالاً ولا جاه. وفي مجالسها الخاصة، تُفرق دمشق جيداً بين الحرامي والعصامي، وبين الأمير والرذيل…وللتأكيد، الأمير هنا هو أمير الأخلاق، وليس أمير النسب أبداً.

هل تتذكرون مجالس العائلة أيام زمان؟ هل تتذكرون كيف كانت العمّات والجدات تفصفصن تاريخ كل شخص: من هو أباه ومن هي أمه…ماذا كان يفعل جده الأكبر…أسماء أعمامه وخالاته…مكان عمل وإقامة أنسبائه وأصهرته، حتى أسماء أصدقائه كانت لا تفوتهم. هل مرّ معكم حديث القدماء عند تحريهم عن عريس تحديداً لو كان ذو ماضي مريب أو عائلة إشكالية؟ هو حديث مُذهل، فيه دقّة متناهية وحرص لا مثيل له. الجيل الجديد قد لا يعرف هذه المجالس إلا عبر المسلسلات التلفزيونية، وقد يعتبرها نوع من الفانتازيا الإجتماعية، ولكننا ما زلنا أحياء ونحن نتذكر جيداً ما سمعنا وشهدنا في أهلنا.

“فلان جد جده كان محبوس لأنه سرسري…والعرق دساس.”

“فلان خاله كان عوايني لفرنسا…وإذا الولد مال ثلثينو للخال.”

“فلانة عمّتها أكلت مال حرام…وخدو البنات من صدور العمّات.”

وبعضنا ما زال يحاول جاهداً الحفاظ على هذا الموروث، بالرغم من صعوبته نظراً لتمزق البلاد وتفرق العباد ودخول الحابل بالنابل في عالم اليوم.

إبنتي صفيّة عمرها سنتين. منذ مدة قالت لي أُمها أنها مدعوة إلى عيد ميلاد أحد زملائها بالروضة. سألت، وبمنتهى الجدية، عن أصل وفصل ذلك الطفل، فقالت لي زوجتي: “لقد دعاها إلى عيد ميلاد وهو لم يَطلب يدها بعد!” كم أخاف عليها من الزمان القادم، الذي باتت فيه معاير تقييم الناس مُرتبطة بحجم أرصدتهم ونوعية سيارتهم ومكان إقامتهم، بدلاً من سمعتهم عَمَلهم وتاريخهم.

وبالعودة إلى صديقي صاحب السيجار والفول: للفول أصول أيضاً لا يجب تجاوزها، تماماً مثل السيجار: يؤكل تغميس باليد حصراً ومعه كوب صغير من الشاي، وكان اشهر متذوقيه الملك فاروق الأول. ولكن فاروق كان سيد الأصول، لا يخلط بين الفول والسيجار أبداً، فلكل منهما مجلسه وقواعده وأصوله. صديقي حديث النعمة: تعلم من فاروق.

Posts Carousel

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

Latest Posts

Top Authors

Most Commented

Featured Videos