أدونيس: الشاعر الذي رأى

أدونيس: الشاعر الذي رأى

«يقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا يرد، وأمس حمل قارة ونقل البحر من مكانه. يرسم قفا النهار، يصنع من قدميه نهاراً ويستعير حذاء الليل ثم ينتظر ما لا يأتي. إنه فيزياء الأشياء -يعرفها ويسميها بأسماء لا يبوح بها. إنه الواقع ونقيضه، الحياة وغيرها». هكذا يُقبل أدونيس (١٩٣٠) إلى بيروت مجدداً، مكرّماً من الجامعة الأنطونية، إلى المدينة

«يقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا يرد، وأمس حمل قارة ونقل البحر من مكانه. يرسم قفا النهار، يصنع من قدميه نهاراً ويستعير حذاء الليل ثم ينتظر ما لا يأتي. إنه فيزياء الأشياء -يعرفها ويسميها بأسماء لا يبوح بها. إنه الواقع ونقيضه، الحياة وغيرها». هكذا يُقبل أدونيس (١٩٣٠) إلى بيروت مجدداً، مكرّماً من الجامعة الأنطونية، إلى المدينة التي استقر فيها منذ عام ١٩٥٦ ويسكنها اليوم بالتوازي مع باريس… وهي التي يقول عنها بأنها تعينه على فهم المنفى، فبيروت بالنسبة إلى أدونيس ليست بالمدينة المكتملة أو المدينة- المتحف مثل باريس وفيينا والبندقية، بل إنها المدينة -المشروع «حيث يصير الحجر بحيرة والظل مدينة، يحيا -يحيا ويضلل اليأس، ماحياً فسحة الأمل، راقصاً للتراب كي يتثاءب، وللشجر كي ينام» والشاعر الذي يقرأ المدينة مثل خطوط يديه «يعلم تقاطع الأطراف ناقشاً على جبين عصرنا علامة السحر».

كان لا بد لأدونيس مع عصبة من الشعراء والنقاد أمثال يوسف الخال، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وخليل حاوي، ونذير العظمة، ومحمد الماغوط أن يكتبوا القوانين الأساسية لفيزياء الحداثة الشعرية للمدينة، وأن تمثل مجلة «شعر» (١٩٥٧-١٩٧٠) المختبر التطبيقي لهذه الحداثة التي ستطاول الشعر العربي بنيةً ولغةً وفكرةً، وتزلزل «أساطير الأولين» حول الشعر والشعرية ماضياً وراهناً ومستقبلاً، وكذلك في «مواقف» (١٩٦٨) التي أسسها أدونيس لتكون بمثابة التطور الطبيعي لـ «شعر». علي أحمد سعيد إسبر المولود في بلدة قصابين السورية والمعروف باسم أدونيس تيمناً بالأسطورة الفينيقية، الشاعر والمفكر الأبرز على الخارطة العربية اليوم بأعماله التأسيسية مثل «أغاني مهيار الدمشقي» (١٩٦١) و«ديوان الشعر العربي» (١٩٦٤) و«الثابت والمتحول» (١٩٧٣) و«هذا هو اسمي» (١٩٨٠) وغيرها، لا يزال يثير العواصف اليوم: من تشريحه للعنف «المقدس» داخل النص الديني («العنف والإسلام» ـ منشورات سوي ـ باريس ـ ٢٠١٥)، إلى موقفه من الحرب السورية وأسئلته المتشككة من ثورة «لا تخرج من الجامعة بل من الجامع» والتي ألّبت ضده المثقفين المتحمسين للربيع العربي «الحزين». المتتبع لشعر أدونيس منذ البدايات، لا بد من أن يستهدي بضوءين: ما استلهمه من الحداثة الغربية عند احتكاكه بكتابات هولدرلين ونيتشه وريلكه وسان جون بيرس وسوزان برنار تحديداً في تأسيسها النظري لما يشبه المانيفستو لقصيدة النثر المعاصرة، والضوء الثاني هو الذي نتج عن تنقية أدونيس للتراث العربي، عبر غربلته والإضاءة على استيتيقا هذا التراث المتكئ على شعرية عظيمة تضرب جذورها في ما يقارب الألفيتَين من التاريخ. قارب هذا التراث بأكمله من خلال الإضاءة على ثقافتين: «ثقافة الخليفة» و«ثقافة الخوارج والفوضويين» الذين سينحاز لهم تلقائياً، لما مثلوه في التاريخ العربي والإسلامي من هرطقة وتمرد وإعادة تأويل ومقاومة البنية الجامدة والدوغمائية التي تمثلها الثقافة الرسمية والمرتكزة إلى القوة والبطش ومصادرة الحقيقة.

بيروت التي يعود إليها أدونيس مكرّماً، مكسورة مهيضة الجناح، نهشها ملوك الطوائف وصارت المدينة-المشروع لكتل الإسمنت ودعوات العنصرية والفاشية والالتحاق بالمشاريع الغريبة عن روحها وتاريخها وما أرادته لها تلك المجموعة من الشعراء التي سيجت حداثتها الذهبية في المسارح والمطابع والمقاهي، من أن تكون مدينة في كتاب وجريدة ومسرحية ولوحة وأغنية. مهيار الذي «يمشي في الهاوية وله قامة الريح»، هل سينقش من جديد فوق بيروت الحزينة علامة السحر؟

الأخبار- محمد ناصر الدين

Posts Carousel

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

Latest Posts

Top Authors

Most Commented

Featured Videos