الحقيقة أن تكون صحافياً سورياً لا يعني أن تتغنى بأسس مهنتك ومبادئها، ولا أن تبحث عن الحقائق والمتاعب في جوّ تسوده روح المغامرة. يمكنك أن تنعت نفسك قائلاً: «أنا متصيد المعلومات والأفكار والأخطاء… والمشاغب والمناضل في آن»، إنما لا تتخلَّ أبداً عن الحكمة المطلوبة للعودة إلى بيتك آمناً كل مساء، فلا بد أن شريكاً ينتظرك
الحقيقة
أن تكون صحافياً سورياً لا يعني أن تتغنى بأسس مهنتك ومبادئها، ولا أن تبحث عن الحقائق والمتاعب في جوّ تسوده روح المغامرة. يمكنك أن تنعت نفسك قائلاً: «أنا متصيد المعلومات والأفكار والأخطاء… والمشاغب والمناضل في آن»، إنما لا تتخلَّ أبداً عن الحكمة المطلوبة للعودة إلى بيتك آمناً كل مساء، فلا بد أن شريكاً ينتظرك أو أسرة تحتاج إليك، كسائر أبناء شعبك، الذي يُخيّل إليك أحياناً أنك ناطق باسم معاناته. في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، لست مسيحاً مُخلِّصاً، ولا صوت من لا صوت لهم؛ أنت صاحب مهنة تلتزم الحدود، في بلاد تتوالد فيها الخطوط الحمر. معظم الصحافيين متألمون بعد حرب طحنت البلاد وأبناءها، وطرحت تحديات كبيرة بات صعباً معها أن يعلو الصوت لانتقاد تفاصيل خدمية بسيطة.
أعداء الشعب
الصحافيّون هم أعداء الشعب. حقّاً هم كذلك. هذا لا يشمل طبعاً الصحافيين الوطنيين، الملتزمين بكلّ ما تنصّ عليه «الكاتالوغات» الحكوميّة، المستميتين في شرح أبعاد المؤامرات، بمربّعاتها ودوائرها وشبه منحرفاتها، البعيدين كلّ البعد عن جرائم توهين الأمم، وإضعاف الشعور القومي، وبث الشائعات المغرضة (أصلاً هؤلاء فوق جميع أنواع الشبهات). ثمة صنف آخر من الصحافيين نقصدهم هنا، ولا شكّ في أنهم يعرفون أنفسهم جيداً لأنّ «اللي فيه شوكة بتنخزو». ولأننا نعيش في «زمن الوعي»، فإن قدرات أولئك المجرمين على إخفاء نياتهم باتت معدومة. جميع أوراقهم مكشوفة بفضل العيون الساهرة، والهمم الساحرة، وهم ملعونون في الدنيا والآخرة.
نعذر هذا الشعب المُتعَب إذ يسخط علينا ويطالبنا بأن ننقل صوته إليكم
لا يتوقع أحد في الشرق الأوسط يوماً، أن تصل حرية الإعلام إلى درجات رفيعة، فالطموحات لا تتعدى تقليص أعداد الصحافيين المضطهدين والمستهدفين بالاعتقال أو التصفية. وإن كان الصحافي متهماً بالتصيّد، فإن الكاتب الصحافي زياد حيدر يرى ذلك «جزءاً من عمله، مع شرط التدقيق في المحتوى الذي يقدمه وخلفياته، انطلاقاً من مهنيته ووفائه لعمله». التعامل مع الإعلامي كعدو، بحسب الزميل حيدر «لا يخدم القضايا العامة»، أما تسجيل النقاط على الحكومة، فهذا «أسهل ما يمكن فعله وسط الضغوط القائمة». ووفق تعبير حيدر، فإن «اللوم يقع على تزايد عدد المدّعين في المهنة باعتبار الفضاء الإلكتروني مفتوحاً لمن يريد… وهذا ما يضيع أهمية العمل الجدّي».
«تكسير الراس الكبير»
قبل أيام، جرى توقيف صاحب ترخيص موقع «هاشتاغ سوريا» المحلي، محمد هرشو، على خلفية نشر خبر متعلق برفع سعر البنزين المدعوم جزئياً من الحكومة، ليطلق سراحه لاحقاً. أتى هذا الحدث بعد أيام من اجتماع رئيس الحكومة عماد خميس مع ممثلين عن الإعلام الخاص، ساده الكثير من الشفافية والمسؤولية، بشهادة الزملاء الحاضرين، من بينهم رئيس تحرير الموقع نفسه علي حسون. الزميل حسون علّق على التوقيف بعد الاجتماع المذكور بقوله: «الوعود وحدها لا تكفي. نحن نؤمن بأن الإعلام الحُر قوة للدولة والشعب». وفي حديث خاص إلى «الأخبار» اعتبر حسون التوقيف شخصياً، ضمن رسالة تفيد بـ«تكسير الراس الكبير»، باعتباره لم يطَل رئيس تحرير الموقع أو مديره المسؤول. واللافت أن حسون علّق على كلام رئيس الحكومة عن عرقلة السلطات المصرية عبور ناقلات النفط الإيرانية إلى سوريا، بإيجابية مصدّقاً «كل كلمة قالها رئيس الحكومة»، وواصفاً الشرح الذي قدمه خميس عن الإجراءات الحكومية لحل المسألة مع المصريين بـ«المنطقي». الصحافيون السوريون يعيشون أسوأ أيامهم، من غير حماية قانونية، وفق ما يراه حسون، إذ إنهم معرضون للتوقيف والفصل، من خلال تهم جاهزة وفضفاضة.
«بالع الموس عالحدّين»
تهميش الدور الإعلامي كان حاضراً طيلة عقود. وقد مرّ أخيراً بأطوار متعددة، بحسب تعاقب حكومات الحرب وإدارتها للأزمات الخدمية المتتالية. قبل عام من اليوم تعرض الصحافي فهد كنجو لتجربة الاعتقال، في مواجهة مع أحد المسؤولين الحكوميين السابقين. يعترف كنجو بوجود منتفعين في الوسط الصحافي، واصفاً بعض المقالات بأنها «تندرج تحت بند العداوات الشخصية». ويلقي بدوره، اللوم على كثرة «الناشطين الفايسبوكيين» الذين يجتزئون التصريحات، ما يؤدي إلى انعدام الثقة بالإعلام. للحديث شجون، بالنسبة الى كنجو، إذ يصف الوضع بقوله: «من يكتب وجهة نظر الحكومة يتعرض لاتهام الشارع بالاستفادة من المسؤولين، بينما يعتبر المسؤولون أن أي نقد لعملهم يعني أن كاتبه مأجور. الإعلام هُنا وفقاً للمثل الشعبي: بالع الموس عالحدين».
نعرف بحكم الولادة في بلاد لطالما مثلت واجهة الصراع العربي ــــ الإسرائيلي على مدار عقود، أن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». لسان حال الصحافيين يقول للمعنيين: نحفظ هذا الدرس القديم الحديث، كما حفظه آباؤنا من قبلنا. إن «مارسنا الشغب»، فلا بد من حسن النية لتلقّي صوتنا إذ ينادي: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، أن نحمي ظَهر البلاد وننتمي إلى أهلها ونمارس واجبنا في تفهم حاجتهم وغضبهم.
الأخبار- مرح ماشي- صهيب عنجريني
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *