بداعي الملل!

بداعي الملل!

كتب الصحفي أسامة يونس  ألا تشعر بالملل؟ الملل على الأقل؟ أي جَلدٍ ذاك الذي يجعلك تخوض في التفاصيل ذاتها، والقضايا نفسها طوال عقود من الزمان؟ في التفاصيل، يبدو كل شيء مكرراً: من تزفيت الطرقات، وليس انتهاء بإقرار الموازنات وقطع الحسابات، والقوانين. أنت تناقش الآن في قانون سيجعل رأيك في أداء مسؤولٍ ما، جريمة يعاقب عليها

كتب الصحفي أسامة يونس 

ألا تشعر بالملل؟ الملل على الأقل؟ أي جَلدٍ ذاك الذي يجعلك تخوض في التفاصيل ذاتها، والقضايا نفسها طوال عقود من الزمان؟

في التفاصيل، يبدو كل شيء مكرراً: من تزفيت الطرقات، وليس انتهاء بإقرار الموازنات وقطع الحسابات، والقوانين.

أنت تناقش الآن في قانون سيجعل رأيك في أداء مسؤولٍ ما، جريمة يعاقب عليها القانون. تناقش في قانون يتعلق بالكتابة، والإعلام، والتعبير عن الرأي، صاغته وزارة الاتصالات، لا العدل مثلاً. فكيف يمكن أن تناقش “بالعقل والمنطق” تفاصيله؟

تناقش في الدعم، ورفع الدعم، والتفاصيل التي “ما هكذا تورد الإبل”، تناقش بأدلة تبدو أكثر وضوحا من البداهة ذاتها، عن سنة صنع السيارة، عن السجل التجاري، عن الأخطاء التي ترتكب (دون قصد) في تصنيف البشر إلى “مستبعد من الدعم”، أو “تحت مظلته.”

كل ذلك في واقع يقول إن متوسط الأجور في سوريا يُقدر بنحو 30 دولارا، في الشهر طبعا، وبنسبة تآكل في الدخل تزيد عن 200 في المئة خلال السنوات العشر الماضية. والأهم: أنك تناقش في تفاصيل “مظلة دعم” تعادل كيلو سكر وكيلو رز وربطة خبز؟

في التفاصيل، تبدو الحكومة كما كانت طوال عقود: صاحبة قرار خاطئ غالبا، سلطة “غير مبدعة”، يستطيع حتى غير المتخصص أن يحل لها القضايا، ويضع مقترحات حلولٍ تبدو صحيحة فعلاً، أمام العجز المستمر، و”الحلول” البليدة التي تؤدي إلى مزيد من المشكلات.

ذلك في واقع يبدو فيه رؤساء الحكومات المتعاقبة نسخا مكررة، حتى بربطة العنق، ودرجة شدها حول الرقبة.

عام 2004 “أثير جدل” حول المادة 137 من قانون العاملين الأساسي، التي وصلت إلى مجلس الشعب، بنفس صياغة سابقتها، (المادة 138) والمادة تجيز صرف العامل من الخدمة، دون أن يحق له الاعتراض، وكان نص المادة في القانون ينصّ، وكأنما بنوع من “الجكارة”، على أنه لا يحق للعامل المصروف من الخدمة، وفقا لتلك المادة، الاعتراض “أمام أي جهة أو مرجع قضائي”، وكأنما كان من صاغها يريد أن يقول “وليبلط البحر.”

ولأن تعارض ذلك النص مع الدستور -كان وما زال طبعا- فكل شيء بقي على حاله، أشد وضوحا من “طلقة المسدس”، فقد تعالت أصوات تطالب بإلغاء المادة.

في التفاصيل: كان الكلام كله منطقيا، ولم يكن الأمر بحاجة لخبراء في القانون كي نعرف أن ذلك النص لا يجب أن يبقى.

بدافع الحماسة مضيت في الكتابة عن التفاصيل، وأذكر أنني التقيت اثنين من أعضاء لجنة كانت مكلفة بدراسة تعديل القانون، سألت عن المادة، أصرّا على أنها ستلغى، و”بكل ثقة”.

وحين صار مشروع تعديل القانون جاهزا، وبقيت فيه تلك المادة، قال لي أحدهما، وكان سابقا أحد أساتذتنا في مادة التشريعات الصحفية، ولاحقا مسؤولاً حكومياً: إن اللجنة الدارسة لمشروع القانون “ارتأت” أن يبقى نص المادة على أن يُترك الأمر لمجلس الشعب، فهو: “خط الأمان الأخير.”

وافق خط الأمان ذاك، طبعا، على النص، بكل ما فيه من تعارض صارخ مع الدستور، لكنه عاد بعد أيام “ليغير رأيه” ويعدل قليلاً في المادة التي ما زالت تنص على عدم السماح “باستخدام” العامل أو إعادته للعمل “مهما كانت صفة هذا الاستخدام إلا بقرار من رئيس مجلس الوزراء يجيز ذلك.”

كم أُنفق من الجدل في “خوض غمار” تفاصيل إصلاح القطاع العام، وشركة “الكرنك”، و”باص الدولة”، و”الرسوم الرمزية في مشافي الدولة”، والإدارة بالأهداف، والتشاركية بين القطاعين، و”نظرية” اقتصاد السوق الاجتماعي، تلك التجربة الفريدة التي تتعارض مع دستور البلاد، بل مع دستور الحزب ذاته الذي أقرها في مؤتمره القطري العاشر (2005).

• فاصل منشط: المادة 29 من دستور حزب البعث:
“المؤسسات ذات النفع العام وموارد الطبيعة الكبرى ووسائل الإنتاج الكبيرة ووسائل النقل ملك للأمة تديرها الدولة مباشرة وتلغى الشركات والامتيازات الأجنبية.”

بالتفاؤل ذاته، عليك أن تناقش في الدعم، وعليك ألا تضحك على حكومة سيبدو أنها ارتكبت أخطاء في البرمجة وهي تَعُدّ عليك حبات الرز والسكر، ثم تخوض معها النقاش السهل، بالحجة الواضحة، وبالأرقام التي قدمتها هي إليك، لتخرج بنتيجة تقول إن الماءَ ماءٌ.

عليك ألا تضحك وأنت تتابع تعليمات وزيرٍ شغل يوما موقعا في “مايكروسوفت”، وهو يستخدم أرقى التكنولوجيا كي يحسب عليك أرغفة الخبز، وكي لا يجد حلاً سوى أن يضع لك زرا على شاشة رقمية، عليه عبارة “أريد دعما.”

مجددا، عليك أن تناقش فيمن “يستحق” الدعم، فقد أصبح “توجيه الدعم لمن يستحقه” وراء ظهرنا، سيصير “خطأ” في النظام، هو محور الحديث، تطلب الحكومة وقتا، تعيد البرمجة، ثم تقدم إليك كيسا من الرز كاملاً، وربما تزيده بضع حبات إكراما للتضحيات التي قدمتها.

بالسخرية والابتسامة ذاتها عليك أن تناقش مشروع قانون، ستقول إنه يتعارض مع الدستور.. لن تحتاج خبيرا في القانون: واضحة وصريحة، ولكن هناك دوما في مجلس الشعب (خط الأمان الأخير) من سيخالفك الرأي، أليس من حق الجميع أن تكون لهم آراء؟ وسيوافقه أغلبية أعضاء مجلس الشعب، لتخرج عليك “سانا” بخبر يقول: ناقش أعضاء المجلس مواد القانون مادةً مادة، وتداولوا في الاعتراضات المقدمة عليه، ثم أقره غالبية الأعضاء وأصبح قانونا.

سيكتب المحرر كلمة ثم يشطبها قبل النشر: “ولتبلطوا البحر.”
ثم تسود موجة من “السخرية”، وكثير من الـ “أضحكني”.. ثم يسود صمت جديد.

“أريد دعما”؟ هل سبقك أحد إلى ذلك؟ هل تضحك في سرك؟ شخصيا أتمنى ذلك، لأن ضحكتك على الملأ هي أكثر ما يوهن نفسية تلك الأمة.. الأمة العربية الواحدة، أتذكرها؟

ألا تشعر بالملل؟ الملل على الأقل؟ أي جَلدٍ ذاك الذي يجعلك تخوض في التفاصيل ذاتها، والقضايا نفسها طوال عقود من الزمان؟

المصدر- الفينيق

Posts Carousel

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

Latest Posts

Top Authors

Most Commented

Featured Videos