الحقيقة سنوات طويلة قضتها صباح السالم (حمص- 1957) في مقصورة النساء بسجن دمشق المركزي، طاويةً أجمل سنيّ حياتها وراء الجدران، بعد مسيرة حافلة كانت الممثلة السورية قد بدأتها مع كبار مخرجي السينما والتلفزيون في بلادها. فمنذ تخرجها من كلية الصيدلة بجامعة دمشق عام 1973، شاركت السالم في أنشطة النادي السينمائي الجامعي، كأحد ألمع أعضائه اللذين
الحقيقة
سنوات طويلة قضتها صباح السالم (حمص- 1957) في مقصورة النساء بسجن دمشق المركزي، طاويةً أجمل سنيّ حياتها وراء الجدران، بعد مسيرة حافلة كانت الممثلة السورية قد بدأتها مع كبار مخرجي السينما والتلفزيون في بلادها. فمنذ تخرجها من كلية الصيدلة بجامعة دمشق عام 1973، شاركت السالم في أنشطة النادي السينمائي الجامعي، كأحد ألمع أعضائه اللذين أسهموا في الحركة الطالبية السورية في سبعينيات القرن الفائت. فالشابة الجميلة كانت مصابة بالإدمان على قراءة الروايات منذ صباها في قريتها المغلية – الميدان حالياً – (35 كم شرق مدينة حمص) لتنتقل مع أسرتها بعد ذلك للعيش في حي الأرمن بمدينة حمص. هناك لم تترك (صباح الصالح – اسمها الحقيقي) داراً من دور السينما إلا وتردّدت عليها: “كنتُ ما أزال طالبة في المرحلة الإعدادية حين كان عمي يصطحبني معه إلى صالات حمص والشرق والأوبرا، وأذكر أن كل دار من دور العرض تلك كانت تختص بتقديم نوع من الأفلام، فهذه للأفلام الهندية، وهذه للمصرية وتلك للأجنبية، وكلما كنتُ أشاهد فيلماً مقتبساً من الأدب، أتمكن من قراءته وتحليله بعين مختلفة عن بنات جيلي. فقراءتي روايات من مثل “ذهب مع الريح” و”مرتفعات وذرينغ” و”البؤساء” و”أحدب نوتردام” جعلتني أكثر التقاطاً لما وراء الصور التي كنت أشاهدها في صالات السينما”.
شبّت صباح على حب القراءة، وتدبرت أمرها باستعارة الكتب من صديق للعائلة، كان يقوم بإعارتها كتباً للمنفلوطي وطه حسين ونجيب محفوظ وحنا مينة وأدونيس، لتسافر بعدها إلى دمشق وتدرس الصيدلة في جامعتها. وهناك لم تفتر حماسة الفتاة الحسناء إزاء غرامها بالقراءة ومشاهدة الأفلام، إذ كانت على الرغم من تفوقها في دراستها حريصة على ملاحقة كل جديد في صالات الزهراء والسفراء وفريال ودمشق والكندي. ففي صالة الكندي كانت عضواً ناشطاً من أعضاء النادي السينمائي الذي كان يديره كل من الناقد بندر عبد الحميد والمخرج محمد شاهين، ولفتت الصبية ذات الشخصية القوية نظر هذا الأخير الذي دعاها لتكون بطلة فيلمه “مأساة فتاة شرقية”. تقول السالم عن تلك الأيام: “طلبت السيناريو من شاهين وقرأته، لكنه لم يعجبني، ولم أجد فيه سحر تلك الأفلام التي كنتُ أشاهدها، فاعتذرتُ منه، متذرعةً بأنني مشغولة بتقديم امتحاناتي في الجامعة”.
التحرش في القبو
لن تطول الأيام حتى تتخرج السالم من جامعة دمشق بمعدل جيد جداً، من دون أن تترك التردّد بانتظام على نادي السينما، حيث تلقت دعوةً جديدة من أحد المخرجين، الذي دعاها لإجراء تيست (تجربة أداء) في أستوديو المؤسسة العامة للسينما: “ذهبتُ عن طيب خاطر إلى المقابلة، وشرع المخرج بالتقاط الصور لي في أستوديو يقع في قبو بناء المؤسسة العامة للسينما، وبدأ مع كل صورة يلتقطها لي، ومع كل حركة كاميرا يطلب مني وضعيات معينة لم ترقني، ولم تجعلني مرتاحةً له، إلى أن قام بالتحرش بي، فما كان مني إلا أن صفعته وهربت مسرعةً ودموعي تكرج على خدي. كانت تجربة قاسية، جعلتني أبتعد عن السينما التي أحببتها في أفلام الأجانب وبغضتها في بلادي، لقد شعرتُ أن بعضاً من مخرجينا مزيّفون، ويسعون إلى جسد المرأة باسم الفن، ما جعلني أختنق من دون أن أخبر أحداً بما حدث لي في ذلك القبو السينمائي الوطني”.
حادثة قبو المؤسسة العامة للسينما أبعدتها مجدداً عن مسارها كممثلة، إلى أن حانت أول فرصة لها للعمل لصالح التلفزيون في مسلسل “تجارب عائلية”- 1981، مع شيخ المخرجين السوريين علاء الدين كوكش، والذي أسند إليها دور الفتاة المتمردة، إلى جانب نجاح حفيظ وملك سكر ونذير سرحان وتيسير السعدي وسامية الجزائري. هكذا سطع نجم الفتاة ذات العينين الخضراوين والشعر الكستنائي وبحة الصوت الخاصة، ما جعلها تصعد إلى مصاف نجوم الصف الأول في ثمانينيات القرن الفائت، فتعمل مع عدد من أبرز المخرجين السوريين، ومنهم سليم صبري في مسلسل “شجرة النارنج”- 1989 و”الطبيبة”- 1988 مع فردوس أتاسي.
في هذه الأثناء لم تتخلَ السالم عن حلمها العلمي، فحصلت على وظيفة مخبرية في معمل شركة سورية للأدوية ، واستطاعت مع رفاق لها الاستغناء عن خدمات الخبير السويسري المنتدب للإشراف على المعمل، منادية بالاعتماد على الخبرات الوطنية، فطوّرت أنواعاً من حليب الأطفال مستغنية عن تراخيص شركة “نسلة”. هذا النجاح جعل العيون مفتوحة عليها، لاسيما أن صباح شرعت تكتشف عقوداً وهمية في الشركة المذكورة أماطت عبرها اللثام عن صفقات مشبوهة وفاسدة في مجلس إدارة الشركة التي تعتبر من كبريات شركات الأدوية السورية، ولم يتأخر العقاب هذه المرة. تسرد السالم وتقول: “اصطدمت مراراً مع شخصيات نافذة في الشركة، وفُتِحت ملفات عن الفساد في جريدة “الثورة” السورية آنذاك، مما أجج الحقد عليّ، ودفع أحد المديرين إلى وضع الهيروئين لي في فناجين القهوة عبر عملاء له، وهذه المادة لا طعم ولا رائحة لها، ويمكن أن توضع في أي شراب ولا يكتشفها المرء. ومع الأيام ساءت حالتي، ولم أعد أشعر بالراحة إلا بتناول المزيد من هذا المخدر. وهنا ظهر من يقايضني بتوفير الهيروئين لي مقابل المال أو السكوت عما يجري في المعمل، ورويداً رويداً صرتُ أستسيغ ذلك الخدر وهذا المفعول السحري المميت لهذه المادة، كنتُ آنذاك تحت تأثير تجربة حبٍ عنيفةٍ جمعتني مع فنان شاب طموح كان يطاردني من مكان إلى مكان بعد تعرّفه إليّ في ردهات المسرح القومي. أردتُ أن أهرب من شبحه الذي ظل يتعقبني، أحاول نسيانه وتجاهله، وأتجاهل قدرته على الكذب الذي كنتُ أصدّقه وأنا أعرف بأنه يكذب ببراعة. في البداية كنت أحاول الهرب من ذاكرتي معه، ومن كل من حاولوا التقرب مني لتصفية حسابهم معه عبري، لكنني لم أسمح لأحد بأذيته، لذلك آثرتُ الوحدة على تناول صحن الانتقام بارداً، ومع أنني كرهته في البداية إلا أنه بعدها نجح في استدراجي إلى الحب”.
تجربة قاسية
عاشت السالم تجربة لا تحسد عليها في الإدمان على المخدرات، جعلتها تتراجع صحياً عاماً بعد عام، لتوضع بعد ذلك في لعبة رهان مرعبة، حين طالبها أحد ضباط مكافحة المخدرات بأن يقيم معها علاقة حميمة مقابل عدم إلقاء القبض عليها، تشرح السالم: ” كان الضابط (أ.ف) مُصرّاً على سلبي كرامتي، وعندما لم أُذعن له، ولم أمتثل لرغباته الشهوانية الدنيئة، لجأ إلى تلفيق تهم عديدة لي، منها تصنيع المخدرات والاتجار بها، ومع أنني لم أكن أقوم بذلك إلا لتأمين الكمية الشخصية لي، إلا أن هذه التُهم كانت كفيلة بوضعي في السجن لأكثر من اثني عشراً عاماً امتدت على ثلاث فترات، وآخرها كان الحكم عليّ بالإعدام، والذي تم تخفيفه بعد ذلك بمرسوم رئاسي، لتصبح عقوبة السجن مدة خمسة عشر عاماً، وتخفيفها بعد ذلك بالسجن مدة ثماني سنوات”.
قضت الحسناء الحمصية سنواتها الطويلة في السجن، من دون أن تتلقى دعماً يذكر من نقابة الفنانين أو الصيادلة، أو حتى من زملائها الممثلين الذين ظن الكثير منهم بأنها ماتت منذ زمن بعيد، باستثناء الفنان محسن غازي، الذي عمد إلى العمل على مساندتها في الدوائر الرسمية وفي النيابة العامة والقضاء لاستخلاص أمر بإخلاء سبيلها مقابل كفالة. وتكفّل رجل الأعمال ماهر العطار صاحب ومدير شركة العطار للإنتاج الفني بالنفقات المادية، وزيارتها في السجن أكثر من مرة مع مجموعة من معجبيها القدامى.
وفعلاً خرجت نجمة فيلم “الحدود”- 1984 (تأليف محمد الماغوط، إخراج دريد لحام) إلى الحرية منذ قرابة الشهرين، لتذهب وتقيم عند أقرباء لها في مدينة حمص، فيما تتابع سفرها إلى العاصمة لاستصدار حكم بالبراءة بعد قرار بالطعن تقدمت به النيابة العامة في دمشق ضدها. الأمر الذي جعلها تقع مرةً أُخرى في دوامة استدعاءات القضاء والشرطة، وفي ظل ظروف قاسية تعيشها اليوم نجمة فيلم “الرقص مع الشيطان”- 1993″ الذي لعبت فيه دور البطولة إلى جانب النجم المصري الراحل نور الشريف.
أدوار طليعية
أدت السالم أدواراً مركّبة وجريئة من دون أن تتخلى عن طبيعتها الشرقية، فكانت نجمة فيلم “نجوم النهار”- 1988 تحت إدارة المخرج أسامة محمد، وأُسندت إليها أدوار لافتة في مسلسلات مثل: “طقوس الحب والكراهية”-1995، و”سكان الريح”- 1992، و”أصايل”- 1990، و”أوراق امرأة” – 1990، و”وجوه وأقنعة”- 1989، وتوهجت فيها كلها كممثلة من طراز خاص، وقدرة على امتلاك أدوات مختلفة في عكس عالم داخلي كثيف للشخصية، ساندها في ذلك ثقافتها العالية، وحساسيتها المغايرة في المزج بين الأداء العفوي، والتكنيك الهادئ الخالي من المبالغات والتكلف في النبرة واللعب مع الممثل الشريك أمام الكاميرا.
تعيش السالم اليوم أصعب فترات حياتها، بعد تدهور وضعها الصحي، وفصلها من نقابة الفنانين لعدم دفعها الاشتراك السنوي منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك كما بات معروفاً بسبب المدة التي قضتها في السجن، لكنها تأمل في أن تجد لها عملاً في الفن بعد هذا الانقطاع الاضطراري: “إن حصلتُ على دورٍ جيد وأعجبني فسوف أشتغله، لكن لا يظننّ أحد أن حالتي سوف تدفعني لتقديم تنازلات، لا في المستوى الفني ولا في الأجر. فالفن لديّ لا يزال عملاً مقدساً، ولم ـ ولن ـ أدخل يوماً في حسابات الربح والخسارة، فأنا من هؤلاء الناس الذين لا يندمون على شيء، ولا تعنيهم أجراس البورصة، وما زلت أتمنى أن أعمل في السينما أو التلفزيون فقط لأستمتع، كي أقدم عملاً له قيمة يحترمه الجمهور ويعجب به”.
تنهي صباح سيجارتها ثم ترتشف من كأس العصير أمامها وتكمل: “كم أتمنى لو بقيتُ تلك الفتاة الحادة الطباع التي صفعت مخرجاً عندما تحرّش بها، لكن قلبي الطيب هو من أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم، الحب والدفاع عن المهنة والتحزب لوطني ضد الفساد والفاسدين، لستُ ضحية، لن أكون، لكنني أخرج الآن من سجني لأجد البلاد وقد انقلبت رأساً على عقب، والحياة تغيرت، سورية التي تركتها قبل دخولي السجن هي غيرها اليوم، ما أكبر حزنكِ يا بلادي، وما أصغر قلبي”.
اندبندنت عربية- سامر محمد إسماعيل