لجين سليمان تبقى المسافة الأطول والأصعب التي ينبغي على المسافر قطعها، هي التي تفصل بين باب المنزل والسيارة التي تقله إلى الحدود، تلك الحدود التي درسنا أنها مصطعنة، إلا أننا عاما بعد عام أدركنا أنها أكثر حقيقة من كل الوهم الذي درسناه في مختلف العلوم الاجتماعية. يستمرّ الألم حتى تصل إلى الضفة الأخرى من العالم،
لجين سليمان
تبقى المسافة الأطول والأصعب التي ينبغي على المسافر قطعها، هي التي تفصل بين باب المنزل والسيارة التي تقله إلى الحدود، تلك الحدود التي درسنا أنها مصطعنة، إلا أننا عاما بعد عام أدركنا أنها أكثر حقيقة من كل الوهم الذي درسناه في مختلف العلوم الاجتماعية.
يستمرّ الألم حتى تصل إلى الضفة الأخرى من العالم، عالم آخر لا يشبه ذلك الوطن، ومهما ابتعدت وقلت من الأفضل ألا أقارن ، تبقى المقارنة لصيقة بكل خطوة، مع أنك تدرك ضمنيّا حجم الهوّة، التي كانت بمثابة الفجوة التي دفعتك إلى السفر والرحيل، لاكتشاف عالم آخر.
ومع انتقالك ورحلتك ورؤيتك الازدهار والتطور، تعود إلى التفكير بمن تركت، بالكبار والمسنينن ممن اعتادوا على فكرة الوطن، وكبُر في قلوبهم وذاكرتهم، فباتوا يصبرون على كل شيء ينبثق من هذا الجرح المسمّى وطن.
تلتقط الهاتف وتحاول رؤيتهم عبر التقنيات الحديثة، وغالبا ما تتعثّر، بسبب النت العائد إلى بنية تحتيّة تناسب العصور الحجرية، تصبّر نفسك بأن هذه البلاد تعرّضت إلى حرب، فلا تلبث أن تُظهر لك كاميرا الهاتف حجم المعاناة على وجوه من تركت، لتكتشف أنهم أرادوا منك أن تغادر، كي يعانوا وحدهم، كي لا يجعلوك تشبههم، وكأنّ العبرة الوحيدة التي أخذوها من تجارب الحياة، هي أنّ الرحيل أفضل من البقاء، فلحظة ألم أفضل من عمر لم يقدّم سوى الوجع .
تتمايل الوجوه في الظلام، لأنّ الضوء الصغير المسمّى “ليدا” سوف ينطفئ بعد دقائق، فالكهرباء لم تأت اليوم، وربما لن تزورنا في الغد أكثر من ساعة.
يبدأ التصفيق فجأة، من الصغير وحتى الكبير، نعم إنها الكهرباء، قد أتت على حين غرّة، في غير موعدها، وليتها لم تأت، إذ تظهر قساوة التعبير على الوجوه بشكل أكبر، لقد كان الظلام أفضل من رؤية هذا الألم.
بعد الانتهاء من الحديث عن رحلة المعاناة مع الكهرباء وتوابعها من مشتقات نفطية، تأتي مشكلة العصر “البطاقة الذكية” المسؤولة عن التقنين المعاشي ككل، والتي أسّست لاقتصاد يخدم المواطن، اقتصاد بنكهة الندرة والوفرة، الوفرة على الفقير، وأما الغني فقروشه البيضاء ستفتح أمامه السوق السوداء.
تتوالى الكلمات حول الازدحام على الأفران، والذل المرافق لكل لقمة مدعومة، وكأنّ كلمة “مدعوم” كانت ولم تزل تجلب الخراب أينما حلّت، إلى أن ينتهي الحديث بظلام جديد، إذ انقطعت الكهرباء مجدّدا، معلنة قدوم تقنين على التقنين.
نعم هذه هي حياة السوريين اليوم، كهرباء مقننة، تأتي بمحض الصدفة، و “جرة غاز” مدللة مهذبة لا تزور محتاجيها إلا بموعد، و مازوت متأمر مع الشتاء البارد، فلا تأتي الدفعة الثانية منه، إلا في بداية الربيع، إلا أنّ الخبز لم يزل “مدعوما”، حتى إشعار آخر من البطاقة الذكية.
هو الوطن البارد، الذي انهار سقفه، منذ أن اختبأ الودّ بعد أن سمع صخب الخراب، هو المكان الذي لم يزل ينتظر قدوم الصيف، ليجرّب فصلا آخر من المعاناة، معاناة يتحكّم فيها المناخ، فتبدو الحياة فيه، عبارة عن نوبات متتالية من البرد والحرّ، فمن فاته الرحيل بقطار الحرب، سيموت ألما على أمل قدوم “الدعم” المقنن.
الأيام
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *