عن سابق ترصد وتفكير, كنت قد قررت مع مطلع الشهر, أنه لا نكد بعد اليوم, إذ لست ذو القرنين لأحمل العالم بهمومه فوق رأسي, ولذلك أمام الجميع كنت سأعلن إضرابي عن الأخبار, وسأحزم الهموم في صرة, أخفيها في قاع الذاكرة, وسأهاجر إلى الفرح, إلى اللامبالاة, لأن في داخلي رغبة ساذجة دفينة, بالتحليق مع الطيور, علني
عن سابق ترصد وتفكير, كنت قد قررت مع مطلع الشهر, أنه لا نكد بعد اليوم, إذ لست ذو القرنين لأحمل العالم بهمومه فوق رأسي, ولذلك أمام الجميع كنت سأعلن إضرابي عن الأخبار, وسأحزم الهموم في صرة, أخفيها في قاع الذاكرة, وسأهاجر إلى الفرح, إلى اللامبالاة, لأن في داخلي رغبة ساذجة دفينة, بالتحليق مع الطيور, علني لا أرى من أعلى, لا الجروح, ولا الندوب, ولا مقاولي الوطن يعلبونه “مقبلات” و”سناكات” للمتريضين والسابحين والسابحات, وللجالسين على المقاهي “يقزقزون” همومنا مع البيرة!
كنت قد قررت أن ثمان سنوات وأيامي تسعل فيها الظلمة والبرد والأرق كافية للتقاعد من الوجع, فالقناديل تموت, وشعاع الشمس كخيوط العنكبوت, وقدمي تتلمس السلمة الأولى إليه, ويدي تلتمس الحاجز, كي لا أقع, لأن قلبي جائع من أكل الرياء, بل منهك .. حتى البكاء, وبصدق يا رفاق, كنت اتساءل: بعد خراب الوطن ماذا يمكن أن يأكل القلب, كي لا يموت من العياء!؟
إلا أن القدر قاطع قراري بمرض أختي, ورمى في وجهي سؤال: تقولين أنك ستفارقين الوجع, هل نكستِ؟ أبتسم: أنا أريد ولكن على ما يبدو يا وجع: أنت لا تريد, تشظى الوطن, والرعب ليس من الحرب, حيث العدو, عدواً مبيناً, ولكن مما بعد الحرب, حيث العدو قرار, أو جار, أو قلة مال, أو صاحب مال يفرض العيش في ظل السيف وخواء البطون, وحيث المصابيح التي أوقدت للنصر تخبئ عينيها بأهداب جناحيها عن كل الجرائم التي تقع, بحجة ردم الجروح بالتراب, لأن التراب “كما يزعمون” دواء, لكن من يواسي القلب الذي اهترأ من الوجع, ومن يجمع حطامي وحطام الوطن من جديد, ومن يعيد أمي, من يرد أبي, ومن يشفي أختي, دون أن يتلو على أسماعي وصاياه العشر, وأولها: لا تنطقي!؟
يقاطع شكواي, ويقول: تتألمين؟ وأنت محسودة أنك “يوسف” محبوب “يعقوب”, ويقصد بذلك الجنود على الجبهات يقاتلون, ويضيف: لقد رحلت خلفهم إلى كل المطارح, وقلبك بقي بعيداً عن مسرح الجريمة, متسربلاً بالطمأنينة, لم يعرف الظلمة, يطرق الأبواب, يصاحب الدروب, ويتصفح الوجوه, كل الوجوه, ويرى في كل وجه على الجبهة, وجه الوطن, فيعتصمُ بالعروة الوثقى, ويبتسمُ!؟ قلت: لأنني ذهبت إلى كل المطارح وعرفت, أشكو, لأن المعرفة وجع, بل أشبه بصعود الجبال الشاهقة, في البدء يكون المرء محملاً بالأمل, وفي الختام يكون محملاً بالخيبة, ذلك لأن معظم حواراتنا الشخصية منها والوطنية, تحولت إلى ساحات معارك, الذاهب فيها إلى قول الصدق, والراغب في قول الحق, عليه أن يحفظ جداول الحساسيات الفكرية, والعقائدية, والطائفية, وحتى المزاجية, وعليه فقط ترديد نصوص جاهزة مسموح تلوينها بالمدائح, ومرفوض مناقشتها بالعقل, وممنوع فيها استخدام إشارات التعجب, والاستفهام, لئلا يعلنَ ويطوب مارقاً, خائناً, وفي أحسن الأحوال أنه لا يطاق!؟.
وأنا هذا الذي لا يطاق لأنه يعرف بعض الأشياء! والأدهى أنه يجاهر بأن تفاصيل يومنا باتت صوراً تناقض بعضها البعض, وتنفي بعضها البعض, وتتربص ببعضها بعض على حرف, أو حتى همسة أو غمزة عين, مما يجعل كل الأشياء, ملتبسة ومراوغة, وشبيهة بمواقف بعض مثقفينا, دائمي العيش في المنطقة الرمادية, بحجة مراقبة الأحداث من بعيد, لتكوين رأي عقلاني, وتنتهي الأحداث, ويموت من يموت, وينجو من ينجو, وهم مكانك راوح, ما زالوا يفكرون, وأظن أن لا شيء فيه يفكرون, سوى انتظار الرابح, وفي ركابه يركبون, ويقولون: الساكت عن الحق شيطان أخرس, تراهم هؤلاء يقصدون, أم الشيطان في بلادنا من وجهة نظر “المثقفين”, هو وحده من يعرف!؟.
أنا هذا الذي لا يطاق لأنه يعرف في الزمان آخر الزمان, حيث لا عرش إلا للرصاص, والمستفيدين من الرصاص, ولا رأي إلا لأصحاب العمائم, والميكرفونات, والخطابات المكللة بالكراهية, حينها أليس طبيعياً أن أغضب, أقاطع الأخبار, وأصاحب الصمم والعمى والخرس في رحلة طويلة, حتى يأتي زمن في بلادنا يطوب فيه العارف حكيماً, وليس “جريح معرفة”!!
د. نهلة عيسى
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *